02 ربيع الأول 1427هـ موافق فاتح أبريل 2006م
**بسم الله الرحمن الرحيم**
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد،
فقد وردت على الكتابة العامة للمجلس العلمي الأعلى رسالة من السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، يطلب فيها من المجلس الإفادة حول معرفة النظر الشرعي في تطبيق نظام إجراء القرعة بين الراغبين في أداء فريضة الحج إذا زاد عددهم على الحصة المخصصة لإقليمهم، حيث إن الضوابط المتفق عليها بين الدول الإسلامية حددت عددًا سنويًا معينًا من الحجاج لكل دولة تبعًا لعدد سكانها، بنسبة ألف حاج لكل مليون مواطن، مهما تعددت الطلبات المقدمة من طرف مواطنيها خلال نفس السنة.
وقد أحالت الكتابة العامة للمجلس الموضوع على هيئة الإفتاء التي نظرت فيه وقدمت رأيها للمجلس في دورته العادية الثالثة، المنعقدة بتاريخ فاتح وثاني ربيع الأول 1427 هـ موافق 31 مارس وفاتح أبريل 2006م، وهذا نصه:
**أساس مشروعية القرعة:**
عندما يضيق المجال عن استيعاب كل من تتوافر فيه الشروط المطلوبة لأمر معين، فلا بد من اللجوء إلى طريقة أخرى تضمن الإنصاف والنزاهة في الاختيار، وليس هناك طريقة أفضل وأسلم لتحقيق العدالة من إجراء القرعة بين المترشحين، لأنها تضمن الحياد، وتزيل الأحقاد، وتفوض الحسم في الأمر للمشيئة الإلهية.
وقد ورد في مشروعية القرعة نصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، واستقر الأمر على اعتمادها من طرف أغلب علماء الإسلام من مختلف المذاهب الفقهية، وعمل بها من الرسل زكرياء، ويونس، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
فمن القرآن الكريم قوله تعالى في سورة آل عمران، الآية 44: ﴿وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم﴾، في إشارة إلى ما وقع بين زكرياء وقومه في شأن من يتشرف بكفالة مريم، فلجؤوا إلى القرعة، فكانت كفالتها من نصيب زكرياء، وذلك قوله تعالى: ﴿وكفلها زكرياء﴾.
ومن ذلك قوله سبحانه في شأن يونس عليه السلام: ﴿وإن يونس لمن المرسلين إذ اَبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين﴾، وذلك حين ركب سفينة اعتقد أصحابها حين ركدت وتوقفت أن بها مذنبًا يجب التخلص منه، فأجروا القرعة بينهم لتخرج على يونس فألقي به في البحر، لتظهر حكمة الله في تلك القرعة.
ومن المعلوم أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ويكون شرعًا لنا بالأحروية إذا ورد في شرعنا ما يوافقه، كما في مسألة القرعة هذه.
ومن أدلتها في السنة النبوية، ما أخرجه البخاري ومسلم أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرجت معه.
وذلك حفظًا لكرامتهن، وصيانة لهن عما لا يحسن أن يقع منهن في حق رسول الله ﷺ، أو في حق الزوجات أنفسهن، وقد كان من حقه ﷺ أن يختار منهن من تخرج معه، دون قرعة، كما يستفاد ذلك من عموم قوله تعالى: ﴿تُرجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء، ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك﴾ (سورة الأحزاب، الآية 51)، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل، لتتحقق الحكمة من تلك القرعة، التي ذكرها الله في قوله في نفس الآية: ﴿ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن﴾.
ومن السنة أيضًا، ما أخرجه الإمام مسلم، أن رجلًا أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة.
ومن ذلك أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث درست، فقال: «اذهبا وتوخيا الحق، واستهما، وليحلل كل واحد منكما صاحبه».
قال القاضي أبو بكر بن العربي المعافري رحمه الله: «فهذه ثلاثة مواطن، وهي القسم في النكاح، والعتق، والقسمة، وجريان القرعة فيها لرفع الإشكال وحسم داء التشهي» (…) إلى أن قال: «والحق عندي أن تجري في كل مشكل، فذلك أبين لها، وأقوى لفصل الحكم فيها، وأجلى لرفع الإشكال عنها».
وعلى هذا الأساس بحث الفقه الإسلامي قضية اللجوء إلى القرعة من أجل استيفاء الحقوق من بين المستحقين لها، وإقرار شرعيتها.
فقال ابن العربي: «القرعة أصل في شريعتنا»، وأضاف أن بالإمكان التوسع في اللجوء إلى القرعة وإعمالها في كل حالة يمكن أن تفيد فيها في استيفاء الحقوق، وفي قطع دابر الخلاف، وفي حسم التشوف، واتهام القاسم بالانحياز أو الجور، فينمحي كل ذلك ويزول بإجراء القرعة.
ومن خلال تأصيل القرعة في نصوص الشريعة وأقوال الأئمة وأعلام الفقهاء، وارتباطًا بموضوع الفتوى، يتبين أن القرعة مشروعة عندما يتعلق الأمر بقضية تتساوى فيها الحقوق والحظوظ، وتنعدم فيها المرجحات، ويحتاج الأمر إلى وسيلة للترجيح في الأمر المعروض، فلا يبقى إلا إجراء القرعة بين المتساوين لفرز من يحظى بالأولوية في القضية المعروضة.
وبناءً على ما تقدم وخلاصة له، فإنه يجوز اللجوء إلى تطبيق نظام القرعة بين الراغبين في أداء فريضة الحج، إن زاد عددهم على الحصة المخصصة لإقليمهم، مع مراعاة ما جاء في رسالة الوزارة من الأخذ بعين الاعتبار تسجيل الزوجة مع زوجها، والمرأة مع محرمها أو مرافقها بمجرد قبول طلب هؤلاء بعد القرعة، واعتبارهما ضمن الحصة النهائية، وتحديد نسبة مئوية معينة، تقتطع من الحصة قبل الشروع في إجراء القرعة، وتخصص لأكبر المسجلين سنًا، إلى حين استيفائهم، ضمانًا لحق هؤلاء في أن تعطى لهم الفرصة بالأسبقية عمن هم أصغر منهم سنًا.
وهو الرأي الفقهي الذي انتهت إليه هيئة الإفتاء، وارتأته، وأخذت به.
والله أعلم وأحكم، وهو سبحانه من وراء القصد والهادي إلى سواء السبيل.