جارٍ تحميل التاريخ...

حفل توزيع جائزة المجلس العلمي الأعلى للخطبة المنبرية الدورة الخامسة

جارٍ تحميل التاريخ...

فتوى حول ظاهرة تكفير أهل القبلة …

**بسم الله الرحمن الرحيم**

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.


 

وبعد، فإن من المسلم به عند الخاصة والعامة من أمة الإسلام، أن الله سبحانه وتعالى أقام دينه الإسلامي الحنيف على أساس الإيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبما يقتضيه من الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره، وبما يستلزمه من القيام بأركان الإسلام، وغيرها من صالح الأعمال، والتحلي بمكارم الأخلاق ومحامد الخصال، وجعل كلمة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله عنوان الإسلام، وبرهان التدين والإيمان، وجعل كل امرئ شهد بها نطقا واعتقادا مسلما حقا، ومؤمنا يقينا له حرمة الإسلام وعهده عند الله تعالى، وله ذمته وسط مجتمعه المسلم، بما يجعله معصوم النفس والعرض والمال، آمنا من أي إفزاع أو ترويع، مطمئنا من أي أذى أو إضرار من الغير.

وأساس كل ذلك ومستنده آيات قرآنية كريمة، وأحاديث نبوية صحيحة، مثل قوله الله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، وقوله سبحانه: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ﴾.

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حقيقة الإيمان وعناصره: « الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره »، وقوله في حقيقة الإسلام وأركانه: « الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ». وقوله: « ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه، إلا حرمه الله على النار »، وقوله في تحصين هذه الشهادة لنفوس الناس ومكتسباتهم المادية والمعنوية: « فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ».

ومن ثم لم يكن لأحد من خلقه أن ينصب نفسه رقيبا على الناس في قلوبهم ونفوسهم، ولا أن ينقب عن بواطنهم وسرائرهم، ويبحث ويشق عن درجة الإيمان وقوته في أفئدتهم ومشاعرهم، ويقوم بمحاسبتهم على ذلك، ويعتبر نفسه أكثرهم صلاحا وتقوى، فإن ذلك سر بين العبد المسلم وربه، وأمر خفي بين المرء المؤمن وخالقه، وموكول إلى الحق سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ وقوله عز وجل: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾.

وتأسيسا على هذا الأصل الشرعي والحق الجلي في ملة الإسلام، فإن ظاهرة التكفير لأهل القبلة المسلمين، تجاه الأفراد أو المجتمع، ظاهرة غريبة، وبدعة منكرة في الشريعة الإسلامية، دخيلة على جسم الأمة المحمدية واعتقادها الصحيح السليم، كانت بذرتها ونبتتها الأولى مع نشأة فرقة الخوارج، التي تكونت في عهد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه، وصارت بعد ذلك تظهر هنا وهناك في البلاد الإسلامية على مر العصور، وأخذت تتنامى وتبرز أكثر في الوقت الحاضر بشكل مثير ولافت للانتباه.

وفي كل الأوقات والأحوال والعهود كان التصدي لها والوقوف في وجهها: فقد تصدى له الصحابة في عهدهم رضوان الله عليهم جميعا، وتواصل ذلك في عهد من جاء بعدهم من أعلام التابعين وأئمة الإسلام وعلمائه الأبرار على اختلاف مذاهبهم السنية، والشيعية في كل عصر، وإلى الآن، فانتقدوها بالرد والإنكار، وأبطلوها بالحجة والبرهان، ودحضوها بالدليل النقلي والعقلي، واعتبروها توجها مخالفا كل المخالفة لنصوص الشريعة الإسلامية الغراء، وخروجا عن محجتها البيضاء، وسلوكا منافيا لروحها السمحة، ومقاصدها الحكيمة، الداعية إلى اجتماع شمل الأمة.

كما اعتبر السلف الصالح ظاهرة التكفير للمسلمين نتيجة الجهل بحقيقة دين الإسلام وجوهره، ونتيجة الابتعاد عن وسطيته واعتداله، والوقوع في الغلو المنهي عنه في الدين، والتشدد الذي ما أنزل الله به من سلطان في شرعه الرباني الحكيم، والذي يجعل المتصف به، فردا كان أو جماعة، يضيق على نفسه وعلى غيره ما وسع الله، ويرمي بالفسق والبدعة والكفر كل من خالف توجهه في مسألة فقهية أو جزئية فرعية أو فكرة نظرية، أو بدت له منه هفوة بشرية، فيعتبره لذلك خارجا عن الإسلام وعن عهدة الدين والإيمان، وقد يصل به الأمر ـ نتيجة فهمه الخاطئ وغلوه في الدين ـ إلى استباحة دم المسلم وعرضه وماله، والاستهانة به، غير مدرك لخطئه وجرمه، وغير مبال ولا عابئ بفداحة ذنبه وإثمه في الدنيا، وبما سيلقاه عن ارتكابه له من حسرة وندامة، وسوء الجزاء والمصير في الحياة الأخرى.

وهاهي بعض النصوص الشرعية الصريحة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومن أقوال السلف الصالح من الأئمة والعلماء المقتدى بهم تدل على بطلان ذلك السلوك الشاذ المنحرف، وفساده شرعا وعقلا وطبعا، وعلى غي صاحبه وضلاله قطعا، وخروج متعاطيه عن جادة الحق والصواب وعن إجماع أئمة وأعلام الأمة المحمدية، التي وصفها الله تعالى بأنها أمة الوسط والاعتدال، وشهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها لا تجتمع على ضلالة.

ومن ذلك قول الله تعالى في النهي عن التنابز والترامي بسوء الألقاب والنعوت، وعن إساءة الظن بالمسلم في اعتقاده وسلوكه لمجرد وهم وخاطر ألم بمخالفه في حال من أحوال الإنسان، ولا ينبني على دليل بين ولا على برهان: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ ومن أعظم أنواع التنابز بالألقاب وإساءة الظن بالناس، ومن أكثرها جرما وإثما وبغضا من الله، رمي المسلم بالفسق والكفر، وهو بريء منه في نفسه وعند الله تعالى، العليم بقلوب الناس ونفوس العباد.

ومن ذلك أن الله سبحانه أمر أمة الإسلام بالوحدة في الدين والاعتصام بحبله المتين، واجتناب كل ما يؤدي إلى التفرقة بين المسلمين، وأوضح منهج الدعوة إليه سبحانه بمنتهى التبيين، فقال تعالى ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ وقال سبحانه: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.

واتهام المسلم في إيمانه وعقيدته، ورميه بالفسق والكفر في دينه لمجرد

توهم ذلك من أكبر أسباب التفرقة ودواعي الفتنة، ومن أبرز مظاهر الخروج عن المنهج الشرعي الحكيم في الدعوة إلى الله تعالى.

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إساءة الظن بالمسلم في اعتقاده وسلوكه، وفي النهي عن تفسيقه وتكفيره، وفي تحذير أمته من الوقوع في إثم ذلك كله: « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث »، وقوله: « من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما »، وقوله: « سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر » والعياذ بالله.

وأجمع أئمة الإسلام وعلماؤه الأعلام، من سنة وشيعة على أنه لا يكفر مسلم بارتكاب ذنب مهما كان كبيرا، ما لم يستحله، وما لم يظهر منه كفر بواح جلي، فيه من الله برهان، فيقوم حينئذ ولي الأمر في الإسلام بما يجب نحوه شرعا في هذه الحال.

فمن ذلك قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله: « ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب وإن كان كبيرة ما لم يستحلها، ولا نزيل عنه اسم الإيمان، ونسميه مؤمنا حقيقة ».

وقال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: « المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أي لبعض الصحابة حين عير غيره بكلمة): « إنك امرؤ فيك جاهلية »، وقوله الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾.

وقال الشيخ ابن أبي زيد القيرواني، الملقب بمالك الصغير ـ رحمه الله ـ في رسالته في التوحيد والفقه: « ولا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة » أي المسلمين.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب ولا بمجرد التأويل بل الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله »، وقال: « والذي نختاره ألا نكفر أحدا من أهل القبلة »، وذلك إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البيعة وبنودها: « فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ».

**الحكم الشرعي في حق من يقدم على تكفير أحد من المسلمين:**

وتأسيسا على ما سلف من نصوص الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وغيرها من آيات وأحاديث أخرى كثيرة، ومن أقوال السلف الصالح من أئمة الإسلام وعلمائه الأتقياء الأبرار، يتبين كل البيان، ويتضح كل الوضوح لكل مسلم واع متبصر في دينه الحكم الشرعي في حق من يكفر بلسانه أحدا بلسانه، ويتجرأ على ذلك، في غير خوف من الله ولا تكفير ولا توبة، ولا تقدير لعواقبه الوخيمة على نفسه في الدنيا وفي الآخرة.

وهذا الحكم الشرعي هو أن من يطلق العنان للسانه بتكفير أحد من أهل القبلة منحرف في فكره ومزاجه، ضال ومخطئ في سلوكه وتصرفه، متشدد ومغال في تدينه، مسرف على نفسه وظالم لغيره، خارج عن إجماع أهل بلده وعلماء أمته، مذنب في ذلك ذنبا كبيرا، ومتحمل فيه وزرا وإثما خطيرا، من حيث يشعر بذلك أولا يشعر ويحسبه هينا وهو عند الله عظيم.

وعسى أن يكون في تلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال السلف الصالح من علماء الأمة المحمدية خير واعظ وزاجر لمن يقع في ذلك ومرتكبه، وخير هاد ومرشد له إلى الحق، حتى يرجع إلى صوابه، ويهتدي إلى رشده ويستغفر ويتوب إلى ربه في حق نفسه وغيره من الناس قبل فوات الأوان بلقاء الله ذي العزة والجلال، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وفي كل ذلك عبرة وموعظة وذكر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

(فالمسلم مسلم بتدينه وطاعته لله ولرسوله، وهو مؤمن حقا بإيمانه ويقينه في ربه، وقيامه بما هو مطلوب منه شرعا من صالح الأعمال بينه وبين خالقه، ولا يضيره حينئذ أن يرميه متنطع بكفر أو فجور، أو يقذفه متشدد بعصيان أو فسوق، فيتحمل وزر ذلك، ويجني إثمه العظيم، ويحاسب عليه حسابا عسيرا يوم تكشف البواطن، وتبلى السرائر عند الله العليم بها، وتأتي كلمة شهادة الإسلام والإيمان لتحاج عن صاحبها، وتدافع عن حاملها في قلبه ونفسه، وترد عنه باطل ما كان يرميه به أهل التنطع من اتهام في دينه وبهتان، يوم يحكم الله بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون، وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).