موعظة محاسبة النفس نماذج وتجارب من حياة الصالحين
من خلال تتبع سير الصالحين، تجد العديد منهم عملوا على محاسبة أنفسهم المحاسبة الدقيقة، وعملوا على نقلها من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة، ثم إلى النفس الملهمة، ثم إلى النفس المطمئنة، ثم إلى النفس الراضية، ثم إلى النفس المرضية، إلى أن وصلوا بها إلى النفس الكاملة المتحققة بعبادة ربها لا تغفل عنه في حال من الأحوال، وإذا حصل وغفلت وسهت أنفسهم وارتكبت شيئا من صغائر الذنوب وأتفهها، فإنهم يعملون على تأنيبها وتوبيخها وتأديبها ويستمرون في ذلك وعلى هذه الحال، ولا يمكن أبدا أن تجد واحدا منهم عبر في يوم من الأيام عن الثقة العمياء في معاملته لنفسه، قال السيد بكري رحمه الله: » النفس حية تسعى ولو بلغت مراتبها السبعة « . وورد في العديد من الكتب التي اهتمت بالموضوع، أن ميمون بن مهران رحمه الله قال: » النفس كالشريك الخوَّان إن لم تحاسبه ذهب من مالك »، وروي عن مالك ابن دينار رحمه الله أنه قال: « رحم الله عبدا قال لنفسه ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم زمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائدا ».
وقال أحد الصالحين رحمه الله تعالى يبين أهمية المحاسبة والمجاهدة: » إن من رداءة هذه النفس وجهلها، بحيث إذا همت بمعصية أو انبعثت لشهوة فتنيثها أي صرفتها وراجعتها أو تشفعت إليها بالله سبحانه ثم تشفعت برسوله عليه السلام وبجميع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام وبكتابه المنزل على رسله وبجميع السلف الصالح من عباده رضوان الله عليهم أجمعين، وتعرض عليها الموت وسكرته وشدته والقبر وعذابه ونعيمه والقيامة وأهوالها ومخاوفها والجنة وأنواع نعيمها ولذاتها والنار وسلاسلها وأغلالها وضروب آلامها، لاتعطى النفس الانقياد إلى طاعة ربها ولا تترك الشهوة، ثم إن استقبلتها بمنع رغيف أو شربة ماء تسكن وتترك شهوتها، وذلك لتعلم خستها وجهلها، فاحذر أن تغفل عن تذكير النفس الأمارة بالسوء وعن وعظها بالموعظة البليغة، فإنها كما قال خالقها العالم بها أي بجميع أحوالها جل جلاله: « إن النفس الأمارة بالسوء »، من حيث إنها بالطبع مائلة إلى الشهوات، فتهم بها وتستعمل القوى والجوارح في آثارها كل الأوقات »، كما ذكر ذلك العلامة البيضاوي رحمه الله.
وقد شبه أحد العلماء الربانيين رضي الله عنهم النفس في مثل هذا – يبين أهمية محاسبة النفس -، بدابة استعارها رجل من مالكها ليتصرف بها في حاجاته، وكانت دابة جموحة صعبة المراس، فجاز بها المستعير في بعض تصرفاته على دار مولاها، فنزعت إلى دار سيدها، فإنه لا محالة يحتاج إلى صرف عنانها، فإن تقاعست ضربها بالسوط والعصا حتى يصرفها بذلك عما نزعت إليه، وقد يكون عليه في ذلك تعب ومئونة، وسبب ذلك إنما هو خطوره بها على دار مولاها الذي ألفته واعتادته، ولو لم يمر بها عليه لسلم ولم يحتج إلى معاناة ولا مكابدة، فإن تغافل عنها حتى أدخلت يديها في عتبة الباب واستمكنت منها ثم أراد منعها من الدخول لم تطعه بوجه، بل اقتحمت به باب الدار كرها، وربما جرحت رأسه وآلمته، وسبب ذلك إنما هو تمكينها من العمل بمقتضى طبيعتها وموافقة جبلتها، فكذلك حال النفس، ولله در من قال:
فالنفس إن أعطيتها هواها * فاغرة نحو هواها فاها »
وفي هذا الجانب، أي جانب تجارب الصالحين في محاسبة أنفسهم، صح عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتبَ إلى بعضِ عمُّالِهِ قائلا: » حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامةٍ والخسارة »، وقال أنس رضي الله عنه: سمعتُ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه، وقد دخلَ حائطاً، وبيني وبينه جدار، يقول: عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين، بخٍ بخ ، واللهِ لتتقينَ الله يا ابن الخطاب أو ليُعذبنَّك.
وهذا أبوبكر الصديق رضي الله عنه يدخل مزرعة أحد الأنصار ويرى طائرا يطير من شجرة إلى أخرى فيتأمل ويقول هنيئاً لك ياطائر ترد الشجر وتأكل وتشرب وتموت ولا حساب ولا عقاب، يا ليتني كنت شعرة في صدر عبدٍ مؤمن.
وكان الأحنفُ بن قيسٍ رحمه الله تعالى، يجيءُ إلى المصباحِ فيضعُ إصبَعهُ فيه ثم يقول: يا حُنيف، ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا؟ ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا؟ وقال الحسن رحمه الله: » إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُمـاً لا يعاتبُ نفسَه ». فيجبُ إذن أن يكونَ المؤمنُ محاسباً لنفسهِ مهتماً بها، لائماً لها على تقصيرِها.
وهذا الربيع بن خثيم رحمه الله، كان له تحت سريره حفرة كلما رأى من نفسه إقبالاً على الدنيا نزل فيها، وكأنه في قبره ويصيح ويبكي وكأنه في عداد الموتى، ويقول رب ارجعون رب ارجعون ثم يصعد من الحفرة، ويقول: يا نفس ها أنت في الدنيا فاعملي صالحاً.
وكذلكم كان شأن الكثير من الربانيين من أهل المغرب من أهل الولاية والصلاح، الذين أوثر عنهم أنهم اشتروا أكفانا ووضعوها مع ملابسهم، كي يتذكروا الموت كلما هموا بتغيير ثيابهم، وأوثر عن بعضهم أنهم حفروا قبورهم بأيديهم وكانوا يزورونها بين الحين والآخر ويرقدون فيها حينا من الوقت لردع أنفسهم ووعظها.
ويقول إبراهيم التيمي رحمه الله: « مثلت لنفسي كأني في الجنة أكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأطوف في وديانها وأعانق أبكارها، ثم مثلت لنفسي وكأني في النار أكل من زقومها وأشرب من حميمها وأصيح بين أهلها ثم قلت يا نفس أي دار تريدين؟ فقالت: أعود إلى الدنيا فأعمل صالحاً كي أنال الجنة، فقلت: يا نفسي ها أنت في الدنيا فاعملي ».
ومما حكاه الإمام الجنيد رحمه الله عن نفسه، قال: « أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد ما كنت أجده من الحلاوة، فأردت أن أنام فلم أقدر، فقعدت فلم أطق القعود، ففتحت الباب فخرجت، فإذا رجل ملتف بعباءة مطروح على الطريق، فلما أحس بي رفع رأسه وقال: تأخرت إلى الساعة؟، قلت: يا سيدى من غير موعد، فقال: بلى، قد سألت محرك القلوب أن يحرك إلي قلبك، فقلت: فما حاجتك؟ قال: متى يصير داء النفس دواءها؟ قلت إذا خالفت هواها صار داؤها دواءها »، فأقبل على نفسه، وقال: اسمعي فقد أجبتك بهذا الجواب سبع مرات، فأبيت إلى أن سمعتيه من الجنيد وانصرف ولم أعرفه ».
وحكي عن أبي محمد المرتعش رحمه الله أنه قال: « حججت كذا وكذا حجة على التجريد، فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبا بحظي، وذلك أن والدتي سألتني يوما أن أستقي لها جرة ماء فثقل ذلك على نفسي، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كانت بشوب وحظ من نفسي، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع « .
وذكر العلامة الرندي رحمه الله، عن الشيخ أبي بكر الخفاف رحمه الله، سمعت بعض مشایخي يقول عن بعض الصالحين، يقال له أحمد بن أرقم البلخي رحمه الله: أنه قال: حدثتني نفسي بالخروج إلى استيجاب لأجل الغزو، فقلت متعجبا سبحان الله إن الله تعالى يقول: » إن النفس لأمارة بالسوء »، وهذه نفسي تأمرني بالخير، وهو الخروج إلى الغزو، لا يكون هذا الخير الذي أمرتني النفس به أبدا، ولكنها استوحشت فتريد لقاء الناس لتستروح وتطلب الراحة والسكون إلى الناس ولأجل أن يتسامع الناس بي فيستقبلونني بالتعظيم والبر والإحسان والإكرام، فقلت لها: يا نفسي لا أنزلك العمران، ولا أنزلك على معرفة من الناس، فأجابت، فأسأت ظني بإجابتها وانقيادها لذلك، وقلت: الله تعالى أصدق القائلين حيث قال سبحانه وتعالى: » إن النفس لأمارة بالسوء »، فقلت لها: أقاتل العدو حاسرا، أي كاشفا للبدن بلا درع ومغفر أو بلا جنة وترس، فتكونين أول قتيل مقتول في سبيل الله، فأجابت، فأسأت ظني بها، وعدد أحمد بن أرقم أشياء من أنواع الخير مما أرادها، فأجابت نفسه إلى كل ذلك. قال ابن أرقم فقلت: يارب نبهني لإرادة نفسي، فإني متهم لها مصدق لك، فكوشفت بها كأنها تقول لي: يا أحمد أنت تقتلني كل يوم بمنعك إياي من شهواتي مرات، وبمخالفتك، ولا يشعر ولا يعلم بما ذكر من المنع والمخالفة أحد من الناس، فإن قاتلت الكفار في صف القتال قتلني خصمك قتلة واحدة فنجوت منك، ويتسامع الناس فيقولون قتل شهيدا أحمد بن أرقم، ويكون لي شرف وذكر في الناس. قال ابن أرقم: فقعدت ولم أخرج إلى الغزو في ذلك العام، فانظر وتأمل في خداع النفس وغرورها ترائي الناس بعد الموت بعمل لم يكن بعد إلى الآن.
فتبين من قصة هذا الرجل الصالح أن حظ النفس في الطاعة باطن خفي بخلافه في المعصية فإنه ظاهر جلي. قال أحد العارفين: » منذ عشرين سنة ماسكن قلبي إلى نفسي ساعة « ، وسكون القلب إلى النفس هو اتباعه للأخف عليها دون الأثقل، وهو معدود عندهم من نفاق القلب، ومن بقي عليه شيء من دواعي الهوى، وإن قل لا يؤمن عليه من مثل هذا، فخفة العمل على النفس إنما تكون لأجل موافقة هواها لا يميل إلا إلى الباطل، فإذا التبس عليك أمران واجبان أو مندوبان ولم تعلم أيهما أوجب أو أفضل لتقدمه على الآخر، فانظر أثقلهما على نفسك فاعمل به، هذا ميزان صحیح باعتبار غالب الأنفس، لأنها مجبولة على الشر والشره، وإنما قلنا باعتبار غالب الأنفس، لأن النفس المطمئنة لا توصف بالجهل ولا بالشره، فقد يخف العمل عليها ولا يدل ذلك على أنه باطل، فليكن نظر العبد حينئذ إلى ما هو أكثر فائدة وأعظم مزية فليقدمه على غيره.
وذكر الشيخ أبو طالب صاحب القوت رحمه الله، حكاية عجيبة في شره النفس وكونها لا تميل إلا إلى الباطل. قال: حدثني بعض إخواني عن بعض هذه الطائفة: قال قدم علينا بعض الفقراء فاشترينا من جار لنا حملا مشويا ودعوناه إليه في جماعة من أصحابنا، فلما مد يده أخذ لقمة وجعلها في فيه ثم لفظها ثم اعتزل وقال: كلوا أنتم فإنه قد عرض لي عارض منعني من الأكل، فقلنا: لا نأكل إن لم تأكل، فقال: أنتم أعلم، أما أنا فغير آكل ثم انصرف، قال: فكرهنا أن نأكل دونه، فقلنا: لو دعونا الشواء فسألناه عن أصل هذا الحمل فلعل له سببا مكروها، فدعوناه فلم نزل به نسأله عنه حتى أقر أنه ميتة، وأن نفسه شرهت إلى بيعه حرصا على ثمنه، فشواه ووافق أنكم اشتريتموه، قال فرميناه للكلاب، قال ثم إلى أن لقيت الرجل بعد وقت، فسألته، لأي معنى تركت أكله وبأي عارض؟، فقال: أخبرك، ما شرهت نفسي إلى طعام منذ عشرين سنة للرياضة التي ريضتها بها، فلما قدمتم إلي هذا، شرهت نفسى إليه شرها ما عهدته قبل ذلك، فعلمت أن في الطعام علة، فكرهت أكله لأجل شدة شره النفس إليه. قال الشيخ أبو طالب رحمه الله: » فانظر رحمك الله كيف اتفقا في شره النفس على قصة واحدة، ثم اختلفا بالتوفيق والخذلان، فعصم العالم بالورع والمحاسبة، وترك الجاهل مع شره النفس بالحرص وترك المراقبة، أعني البائع للحمل، وعصم الآخرون التوفيق بحسن الأدب، وهو قمع شره النفس عن الأكل بعد صاحبهم، ثم تدارك البائع بعد وقوعه بصدق المشتري وحسن نيته ».
ومن أجمل ما ذكر عن بعض المشايخ في محاسبته لنفسه، أنه كان يصلي في مسجده في الصف الأول سنين كثيرة، فعاقه يوما عن الابتكار إلى المسجد عائق، فصلى في الصف الأخير، فلم ير مدة فسئل عن السبب؟ فقال: كنت أقضي صلاة كذا وكذا سنة صليتها، وعندي أني مخلص فيها لله، فداخلني يوم تأخري عن المسجد من شهود الناس إياي في الصف الأخير نوع خجل، فعلمت أن نشاطي طول عمري إنما كان على رؤيتهم، ققضيت صلواتي ».
هذا نزر يسير من حكاياتهم رحمهم الله في محاسبتهم لأنفسهم، وإلا فلو تتبعنا كتب القوم والسير والرقائق وغيرها، لما وصلنا في ذلك إلى نهاية، والغرض من ذكر هذه النماذج والتجارب هو أخذ العبرة والتأسي بهم في طريقهم إلى الله تعالى، ولنعلم بعد هذا كله بأن الصالحين رحمهم الله لم يجدوا الطريق إلى ربهم سهلة يسيرة مفروشة بالورود كما يقال، فينبغي إذن التنبه والتيقظ من نوم الغفلة، والحذر والاحتياط لهذه النفس الخداعة الأمارة بالسوء، وتوطين القلب على مخالفتها بكل حال، فهذا هو السبيل الموصل لطريق الحق المبعد عن المعاصي إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
الدعاء لمولانا أمير المؤمنين ولسائر المسلمين.