جارٍ تحميل التاريخ...

حفل توزيع جائزة المجلس العلمي الأعلى للخطبة المنبرية الدورة الخامسة

جارٍ تحميل التاريخ...

موعظة الزكاة تطهير للنفس وتزكية لها


الزكاة تطهير للنفس وتزكية لها


 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد؛ فقد حرص الإسلام في كثير من عباداته وأحكامه على تقوية روابط الأخوة وتعميق صلات المحبة بين المسلمين، حتى يكون المجتمع كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، ومن ذلك فريضة الزكاة، وما تضمنته من حكم وأسرار، وما تحققه من مصالح ومنافع للفرد والمجتمع، ينتفع بها الآخذ والمعطي، والغني والفقير، وتساعد على صلاح البشرية ومنع انتشار الفساد في الأرض وإقامة مجتمع متعاون تسوده المودة والرحمة والتضامن.

ومن  مقاصد الزكاة المرجوة ومنافعها المنتظرة :

أولا: تربية المؤمن على الاستجابة لأمر ربه سبحانه وتعالى.

فالله سبحانه هو الخالق الرازق، وهو المنعم المتفضل، الملك ملكه، والخلق خلقه، هو الذي وهب للإنسان هذا المال وجعله وديعة بين يديه ينفقه في مرضاة مولاه، ويؤتي الفقير حقه الواجب منه، قال الله عز وجل: « وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه » (الحديد: 7).

فالغني ممتحن بغناه، والفقير ممتحن بفقره، والمال مال الله سبحانه، والعبد مستأمن عليه، ومع ذلك فقد امتن الله على عباده فسمى ما ينفقه المسلم ويتصدق به قرضا يقرضه لربه سبحانه، قال تعالى: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون » (البقرة: 243).

وهكذا تحقق الزكاة أهدافها في تقوية الإيمان وتعميق عقيدة التوحيد في النفس التي هي الأساس الأول للتزكية، وتكون الزكاة برهانا على إيمان صحابها واستجابته لأمر الله سبحانه، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « والصدقة برهان » (رواه مسلم).

ثانيا: شكر النعمة ومعرفة قدرها.

فالزكاة والصدقات مظهر عملي يشعر العبد بشكر النعمة التي أنعم الله بها عليه، وبذلك ينمو في النفس الشعور بقيمة النعم وتقديرها، ووجوب الشكر عليها بالقول والعمل، وخاصة عندما يقارن صاحب المال حاله بما يجده من أحوال الفقراء المعدومين الذين ابتلوا بالفقر والبؤس، ولولا أنه مكلف شرعا بتفقد أحوالهم ومساعدتهم لما أدرك عظيم النعمة التي هو فيها، وإنما يبقى مشغولا بما يحيط به من المال والتجارات حتى يعتاد هذه النعم ويقل شعوره بفضل المنعم، مما يدفعه إلى التراخي في العبادات والتكاسل عن الطاعات.

وكما أن الصحة لا تدرك قيمتها كاملة إلا الإصابة بالمرض أو رؤية أحوال المرضى، فكذلك الغنى لا تدرك قيمته إلا برؤية أحوال الفقراء والنظر في أوضاعهم، وهذا يدفع المسلم الذي وسع الله عليه بالمال أن يشعر بالتقصير في حق الله عز وجل وأن يسارع إلى المزيد من الإنفاق شكرا لله على هذه النعمة.

وقد وعد الله عباده الشاكرين بزيادة النعم والبركة فيها. قال تعالى:  » وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد » (إبراهيم: 9).

ثالثا: تزكية النفس والتحقق بمقامي التخلية والتحلية.

لا شك أن من أعظم ثمرات الزكاة ومقاصدها تزكية النفس، بتطهيرها من كل المساوئ، وتحليتها بكل المحاسن، وتربيتها على التحقق بمقامي التخلية والتحلية، وهما مقامان عظيمان، بتحقيقهما تصفو النفس وتتطهر، وتسمو بصاحبها في مقامات العبودية لله رب العالمين.

والتخلية: ترك ما يدنس النفس من المعايب والمساوئ. أي تطهير النفس وتنقيتها وتصفيتها وإفراغها من كل المساوئ والقوادح.

والتحلية: تزكية النفس وتزيينها بجميل الصفات ومحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق.

فالزكاة تربي النفس وترقى بها إلى مقامي التخلية والتحلية، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: « خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها »(التوبة:104). قال ابن عاشور رحمه الله: « قوله: «تطهرهم» إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات، وقوله: «تزكيهم» إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات، ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية ».

ففي أداء الزكاة تطهير لنفس الغني من حب المال وتحريره من سطوته؛ ذلك أن الإنسان جبل على حب المال والتعلق به والحرص الشديد على جمعه وكنزه. قال تعالى: « زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث » (آل عمران: 14). ومن رحمة الله بعباده أنه لم يتركهم لتأسرهم الشهوات، أو تستبد بهم الغرائز والملذات، فكان لتشريع الزكاة الأثر البالغ في تحريرهم من هذه القيود والأغلال.

وفي أدائها أيضا تزكية للنفس من الرذائل والبخل والشح والجشع والطمع؛ ذلك أن النفس مجبولة على حب المال والتعلق به والبخل في إنفاقه وطلب الزيادة منه، وقد قال تعالى واصفا هذه الطبيعة من طبائع النفس الإنسانية:  » وإنه لحب الخير لشديد » (العاديات: 8)، والخير هنا بمعنى المال.

فالزكاة طهارة من الشح والبخل، وتدريب عملي على البذل والعطاء وحب الخير للناس، وعدم التعلق بالدنيا والتنافس على حطامها، وإنما يكون ميدان التنافس في بذل المال وإنفاقه ابتغاء رضوان الله، وهذا هو الباقي الذي يجد العبد جزاءه يوم القيامة.

وقد حذرنا ربنا سبحانه وتعالى من آفة البخل والشح، وجعل الفلاح مرتبطا بالتخلص من هذه الآفة وتطهير النفس منها. يقول تعالى: « ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون » (الحشر: 9).

وبين الرسول صلى الله عليه وسلم خطر الشح في إيقاع العداوة، وتأجيج نار الخصومة، واستباحة الدماء وظلم العباد. قال صلى الله عليه وسلم: « اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واسحلوا محارمهم » (رواه مسلم).

وعندما يلمس المسلم في نفسه شيئا من البخل والشح فعليه أن يسارع إلى الصدقات ليعالج بذلك مرض نفسه ويخلصها من هذه الآفة، وبذلك يحظى بالأجر العظيم.

وكما أن الغني يتطهر من آفة الشح والبخل، فإن الفقير يتطهر من آفة الحسد والضغينة على الأغنياء، لأن النفس التي تنظر إلى أصحاب الأموال وقد حرمت من ضروريات الحياة قد تحمل الضغينة والحقد وتتوقد حسدا وكراهية لأولئك الأغنياء الذين يكنزون الأموال ويتقلبون في ألوان النعم وغيرهم يعاني من الحرمان.

فإذا أدى الأغنياء الزكاة، وأكثروا من الصدقات، ولم يشعروا الفقراء بالمنة والتفضل، وتسابقوا إلى تفقد أحوال إخوانهم الفقراء وبذل المال لهم، وانتشرت مظاهر التراحم والتعاطف في المجتمع، فإن هذا يزيد روابط الأخوة، ومن شأن الإحسان أن يستميل القلب وينزع الضغائن.

وقد بين الله سبحانه أثر الزكاة والصدقات في تطهير النفس من الضغائن. قال عز وجل: « إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تومنوا وتتقوا يوتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم. إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج اضغانكم » (محمد: 37-38). قال قتادة: قد علم الله أن في إخراج الأموال إخراج الضغائن.

كما أن الزكاة تحرر آخذها من الحاجة، سواء كانت مادية – كالمأكل والملبس والمسكن – أو كانت حاجة نفسية حيوية – كالزواج – أو حاجة معنوية فكرية ككتب العلم؛ لأن الزكاة تصرف في جميع هذه الحاجات، وبذلك يستطيع الفقير أن يشارك في واجباته الاجتماعية، وهو يشعر أنه عضو حي في جسم المجتمع، بدل أن يظل مشغولا بالسعي وراء اللقمة مستغرَقا بهموم الحياة.

وبذلك تكون الزكاة والصدقات وسيلة عملية لتطهير القلب من آفات الحسد والحقد والضغينة، وتنمية شخصية الفقير وثقته بنفسه وشعوره بالعزلة والكرامة، وإحساسه بأنه ليس ضائعا في المجتمع ولا متروكا لضعفه وفقره.

ولا شك أن الصدقة بهذه الكيفية وسيلة عظيمة لعلاج أمراض النفوس وتطهيرها من آفاتها وأمراضها، وغرس الصفات المحمودة فيها، فهي طهارة لنفس الغني من الشح والبخل والتعالي على الناس، وهي كذلك طهارة لنفس الفقير من العداوة والحسد والأحقاد، وهي ثالثا طهارة للمال من دنسه وتنمية له، فالزكاة تخلية للنفس من الرذائل.

وإذا كانت عبادة الزكاة وسيلة للتخلية والتطهير من كل مظاهر الشح والبخل وحب المال، فإنها منبع للتحلية بجميل الصفات وكريم الأخلاق من جود وعطاء وإحسان؛ ذلك أن من أعظم ما تنميه الزكاة في نفوسنا أخلاق والجود والإحسان التي هي من أعظم أسباب السعادة في الدنيا والآخرة بما تحققه من سعادة الفقير بدفع كربته، وقضاء حاجته؛ وإنما الجزاء من جنس العمل؛ ذلك أن الزكاة من صميم نفع الناس الذي يدخل صاحبه دائرة من أحبهم الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا… » (رواه الطبراني في الأوسط)، وقد اجتمع كل هذا في الزكاة. 

 وقد أدرك الصحابة فضل الجود والصدقات وأجر الإنفاق والزكوات؛ فقد جاء فقراؤهم يشتكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق أهل المال وفوزهم بالدرجات العلى بصدقاتهم؛ فعن أبي ذر الغفاري « أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم… » (رواه مسلم).

وخاتمة القول إن عبادة الزكاة من أعظم العبادات في ديننا التي تحقق في المسلم معاني العبودية لله تعالى، وهي كذلك من الشعائر العظيمة التي تنشر في المجتمع، حين تسود فيه آثارها الاجتماعية الكبيرة، أواصر الأخوة من عطف ورحمة ومحبة ومودة وتعاون وتآلف بين أفراد المجتمع المسلم.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الصدقات والزكوات، ويكتبنا من أهل الإنفاق والجود.

آمين والحمد لله رب العالمين.