جارٍ تحميل التاريخ...

حفل توزيع جائزة المجلس العلمي الأعلى للخطبة المنبرية الدورة الخامسة

جارٍ تحميل التاريخ...

خطبة أثر التوحيد في تحرير الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة منبرية في موضوع:

«أثر التوحيد في تحرير الإنسان»

ليوم: 23 ربيع الأول 1446هـ، الموافق لـ: 27 سبتمبر 2024

الخطبة الأولى



الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، نحمده سبحانه وتعالى حمد المتحررين بتوحيده من الأغيار، ونشكره شكر العارفين الأبرار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، معز من والاه، ومذل من عاداه.

ثم الصلاة والسلام على سيد العباد، الذي أرسله الله لتحرير الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، والتابعين لهم ومن سار على نهجهم واستن بسنتهم ما تعاقب الليل والنهار.

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات، يقول الله تعالى في محكم تنزيله:

﴿ضَرَبَ اَ۬للَّهُ مَثَلاٗ رَّجُلاٗ فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلاٗ سَلَماٗ لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَٰنِ مَثَلاًۖ اِ۬لْحَمْدُ لِلهِۖ بَلَ اَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَۖ﴾، [الزمر، 28].

عباد الله، ضرب الحق سبحانه في هذه الآية مثلا لرجلين: أحدهما: كان مشترَكا بين شركاء متشاكسين فيه أو متنازعين فيه، كل يدعي أنه سيده ومالكه، والثاني: كان خالصا وسالما لواحد، فوضع سبحانه السؤال بقوله:

﴿هَلْ يَسْتَوِيَٰنِ مَثَلاًۖ﴾.

والجواب طبعا: لا؛ أي: لا يستوي العبد الذي يتنازعه أسياد كثر، بعضهم يأمر، وبعضهم ينهى، فهذا لا يسلم من التنازع والاضطراب المفضي إلى الحيرة والتيه، مع العبد الذي يتبع سيدا واحدا يحبس نفسه لطاعته دون غيره، هكذا ضرب الله لنا مثلا للذي يعبد الله الواحد الأحد، والذي يشرك مع الله آلهة أخرى، سواء كان هوى متبعا، أو صنما معظما، أو نفسا أمارة بالسوء، أو ظالما متجبرا عبَّد الناس له من دون الله سبحانه.

لا شك، عباد الله؛ أن الذي يعبد الله وحده ينعم بالحرية الكاملة التامة تجاه الأغيار؛ لأنه جعل فطرة العبودية التي فُطر عليها لله وحده لا شريك له، ليس فيها لغير الله شيئا، فلا هوى يتألهه، كما قال تعالى:

﴿اَرَٰٓيْتَ مَنِ اِ۪تَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَو۪يٰهُ﴾[1]،

ولا مال يأسره؛ لأنه يعلم أن في ذلك شقاءه، فقد صح عن سيدنا رسول الله ﷺ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:

«تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض»[2]،

وهكذا يقال فيمن عبد نفسه، أو الشيطان، أو غير ذلك.

معاشر المؤمنين: إن من أعظم علامات ضعف الإنسان وهوانه عبادته لغير الله، وهذا ما يجعله سهل الانقياد والإغواء من لدن أخيه الإنسان، وهذا المعنى الخفي في عبادة غير الله التي تضعف الإنسان، وهو المعنى الذي غاب عن الصحابي الجليل سيدنا عدي بن حاتم، عندما سمع النبي ﷺ يقرأ قول الله تعالى:

﴿اَ۪تَّخَذُوٓاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمُۥٓ أَرْبَاباٗ مِّن دُونِ اِ۬للَّهِ﴾، [التوبة: 31]،

حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال:

«أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟» قلت: بلى، قال: «فتلك عبادتهم»[3].

وفي هذا التوجيه النبوي إشارة لأشد أنواع تعبيد الناس وقهرهم، بأن يحرم عليهم ما أحل الله لهم، ويُحِلَّ لهم ما حرم الله تعالى عليهم.

عباد الله: إذا كان الشرك من أكبر علامات ضعف الإنسان، فإن التوحيد دليل على قوة الموحد وعزته، حيث تحقق فيه المعنى الحق للتوحيد المتضمن في شهادة الإسلام: «لا إله إلا الله»، يقول الشيخ زروق: «أي: لا معبود بحق إلا الله؛ لأنه لا مستحق للاتصاف بالكمالات سواه»[4].

فأهل التوحيد الحق هم الأحرار على الكمال والتمام، وكلما خلص توحيدهم لله عظمت حريتهم، وكلما شاب توحيدهم شائبة شرك، ضعفت حريتهم، وصاروا عرضة للإضلال والإغواء وتعبيد الأغيار لهم الذين يتسللون بأنواع الطمع والشهوة إلى النفس، ولا يتركونها لتتزكى وتتخلص من شوائب شِرْكهم، وغوائل شَرَكِهم.

وللتخلص من هذه الأدواء المهلكة يحتاج المؤمن إلى مجاهدة النفس وترويضها على حب الخير للغير، والإيثار والسخاء، وتَعَهُّدِها بالذكر ومجالسة الصالحين، ومحاسبتها على الأنفاس، وتوطينها على ما يزينها من الأقوال والأفعال والأخلاق، فإنها حينئذ ستشعر بالندم على ما فات، وتسعد بما هو آت، وتعيش حياة طيبة في الظاهر والباطن، ويسعد بها مَن حولها من الناس، كما قال الحق سبحانه:

﴿أَوَمَن كَانَ مَيِّتاٗ فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُوراٗ يَمْشِے بِهِۦ فِے اِ۬لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِے اِ۬لظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَاۖ﴾. [الأنعام، 123].

فالموت في الآية حرمان من نور الهداية والإيمان، والإيمان وما يقتضيه من عمل صالح نور يستنير به الناس في ظلمات الغواية والضلال،

﴿ وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُوراٗ يَمْشِے بِهِۦ فِے اِ۬لنَّاسِ ﴾.

ألا فاتقوا الله، عباد الله، وأخلصوا له في أعمالكم، واشكروه على نعمه يزدكم، واستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الموحدين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله، إن الإنسان إذا تحرر من نوازع الهوى، والشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، وابتعد عن العجب، وحب الذات الذي هو رأس الخطايا، فقد حقق كمال التوحيد، فهو يأتمر بأمر الله، ويجتنب نهيه، ويتوخى في عبادته ومعاملاته وسلوكه وجه الله، ويعيش بذلك سعادة ما بعدها سعادة، عبَّر عنها العلماء الربانيون بتعابير مختلفة، والمعنى واحد، قيل لحاتم الأصم علام بنيت عملك؟ قال: على أربع: «على فرض لا يؤديه غيري فأنا به مشغول، وعلمت أن رزقي لا يجاوزني إلى غيري فقد وثقت به، وعلمت أني لا أخلو من عين الله طرفة عين فأنا منه مستحي، وعلمت أن لي أجلا يبادرني فأبادره»[5].

فبين رحمه الله، أن السعادة والحرية الكاملة للإنسان في توحيد الله تعالى، والقيام بالواجب المنوط بالعبد تجاه الله وتجاه عباده، فيكون سعيدا بإيمانه وعمله، منشغلا بعيوبه عن عيوب غيره، باحثا عن الكمال الإنساني في الترقي في مدارج العبودية لله تعالى، والتخلص من سائر الأغيار، فيدخل تحت قوله تعالى:

﴿يَٰعِبَادِے لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اُ۬لْيَوْمَ وَلَآ أَنتُمْ تَحْزَنُونَۖ﴾. [الزخرف 68].

وقوله جل ذكره:

﴿يَٰٓأَيَّتُهَا اَ۬لنَّفْسُ اُ۬لْمُطْمَئِنَّةُ اُ۪رْجِعِےٓ إِلَيٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرْضِيَّةٗ﴾ [الفجر، 30-31].

وما أحوج المسلم في هذا العصر بالذات، وقد كثر الكلام عن الحرية، إلى أن يعرف ويتأكد أن الإسلام عندما يشترط توحيد الله بالعبادة بعدم عبادة الإنسان لنفسه، وبضرورة محاسبته لهواه، فإنه قد فتح باب الحرية الحقيقية التي يسعد بها الفرد وتسعد بها الجماعة في الدنيا والآخرة.

هذا ولنجعل مسك الختام أفضل الصلاة وأزكى السلام على سيد الخلق، وحبيب الحق، سيدنا محمد ﷺ، فاللهم صل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين المهديين، وعن باقي الصحابة أجمعين، خصوصا الأنصار منهم والمهاجرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وانصر اللهم من قلدته أمر عبادك، مولانا أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمدا السادس نصرا عزيزا تعز به أهل طاعتك، وتذل به أهل معصيتك، وترفع به شأن الإسلام والمسلمين، اللهم بارك له في الصحة والعافية، واحفظه بسر ألطافك الخفية، وأقر عين جلالته بولي عهده المحبوب صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وشد أزره بصنوه السعيد، الأمير الجليل مولاي رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشريفة، إنك سميع مجيب.

وارحم اللهم الملكين المجاهدين، مولانا محمدا الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم اصبب على ضريحيهما شآبيب الرحمة والمغفرة والرضوان، وارحمهما وآباءنا وأمهاتنا برحمتك التي وسعت كل شيء، إنك واسع المغفرة، وذو فضل على الناس، فامنن علينا بمحض فضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين، يا رب العالمين.

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.