نشأت الدولة وتوطيد الحكم
الموحدون في الأصل حركة دينية كانت تدعو إلى تنقية العقيدة من الشوائب، وتوحيد الله، تأسست من قبيلتي مصمودة وزناتة الأمازيغيتين، وأطلق عليها تسمية “الموحدين”.
قاد هذه الحركة في البداية محمد بن تومرت، وبعده عبد المؤمن بن علي الكومي، وقد أطلق ابن تومرت عام 1118م الدعوة لمحاربة المرابطين، واتخذ من قلعة تنمل على جبال الأطلس الكبير مقرا له، واستطاع خليفته عبد المؤمن بن علي أن يستحوذ على المغرب الأقصى والأوسط حيث دخل مراكش عام 1146م وقضى على المرابطين، ومن ثم على كامل إفريقية حتى ليبيا وتونس عام 1160م، والأندلس 1146م، وبعد نجاحه في إقامة دولته بأفريقية اتجه إلى الأندلس وعمل على تقويتها وصَدِّ هجمات القشتاليين عنها، وفي سنة 1163م توفي فتولى ابنه يوسف الذي استكمل سياسة أبيه، ووطّد نفوذه في الأندلس.
بلغت الدولة الموحدية أوجَها في عهد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي الكومي، وأبي يوسف يعقوب الذي تلقب بالمنصور، وعمل على النهوض بالدولة الموحدية علميا وثقافيا، إذ كان قائدا ماهرا وسياسيا قديرا، استطاع عقد الصلح مع مملكة قشتالة، ولكن نقضهم للصلح اضطره لقتالهم في معركة الأرك التي عقد بعدها هدنة مع ملك قشتالة ألفونسو الثامن، لكن هذا الأخير استغل هذه الهدنة في تقوية بلاده ومحالفة أمراء النصارى، وحين وجد نفسه مستعدا أغار على بلاد جيان وبياسة وأجزاء من مرسية، فاضطر الملك محمد الناصر الذي خلف والده المنصور في إفريقيا إلى الذهاب إلى الأندلس لغزو قشتالة، فعَبَرَ البحر بجيشه وذهب إلى إشبيلية لتنظيم الجيش، ومنها اتجه إلى قلعة “شلطبرة” إحدى قلاع مملكة قشتالة، واستولى عليها بعد حصار دام ثمانية أشهر، ولكن الفونسو دعا البابا أنوسنت الثالث بروما إلى إعلان الحرب الصليبية ضد الأندلس، وكان من نتاج ذلك أن جمع الإسبان جيشا قويا انطلق ليستولي على حصن رباح والأرك وغيرها، وقام المسلمون بجمع جيش مماثل والتقى الجيشان عند حصن العُقاب، فتلقى الموحدون هزيمة قاسية على يد النصرانيين سنة 1212م.
وعلى إثر ذلك بدأت الدولة تتهاوى بسرعة مع سقوط الأندلس في أيدي النصرانيين، ومنذ 1244م تعرضوا لحملات المرينيين، ثم فقدوا السيطرة على المغرب الأقصى، وانتهى أمرهم سنة 1269م بعد أن قضى عليهم المرينيون نهائياً.
بناء العلماء لمقومات الهوية الدينية المغربية وترسيخ ثوابت الأمة:
لقد واظبَ العلماء على بناء مقومات الهوية الدينية المغربية، وترسيخ ثوابت الأمة في العهد الموحدي بالرغم من دعوة النظام الجديد للرجوع إلى الأصول، واتهام الفقهاء بالتجسيم في مجال العقيدة، فمع قيام الدولة الموحدية بالمغرب واصلت المشيخة العلمية بالغرب رعايتها للفقه على مذهب مالك الذي ( واصل تفرعه وانتشاره كما كان قبل أو أكثر، ونتيجة للتفاعل مع الدعوة الجديدة فقد مال أهله إلى الترجيح والتأويل ونبذوا كل التعصب لأئمتهم ومشايخهم، وجعلوا البحث والنظر رائدهم في معرفة الحقائق وتقرير الأحكام، فرجعوا بذلك إلى أصوله ومصادره الأولى من الكتاب والسنة وما إليهما، حيث وجدوا من الدولة العتيدة ميلا إليها وتعضيدا لأهلها)، فقد كان أغلب فقهاء هذا العصر متعصبين للمذهب المالكي مناصرين له، يكفي للتدليل على ذلك ذكر الأعلام الكبار الذي اشتهروا على هذا العهد من أمثال: أبو محمد يشكر بن موسى الجوراء الغفجومي ثم الفاسي الذي له حواشي على المدونة، وأبو محمد صالح الفاسي، وعبد الرحيم بن عمر اليزناسي، وأبو القاسم الجزيري صاحب المقصد المحمود في تلخيص العقود، وأبو الحسن علي بن سعيد الرجراجي صاحب كتب مناهج التحصيل فيما للأئمة على المدونة من التأويل، وأبو الحسن المتيوي صاحب الشرح العظيم على الرسالة، وأسحاق بن براهيم الغماري السعدي المجابري قاضي فاس، وعبد الله بن محمد التادلي الذي كتبت المدونة من حفظه، وأبو الحسن علي بن أحمد التجيبي المعروف بالحرالي المراكشي الذي درس التهذيب فأبدع وأفاد وبين مخالفته للمدونة في بعض المسائل،…. وغيرهم
كما تعددت في هذا العصر مجالس إقراء الموطأ إلى جانب صحيح البخاري وسنن أبي داود، فكأنها مجلس أبي الحسن ابن القطان المتوفى عام 628هـ ، الذي قال عنه الناصري بأنه اشتهر بسرد كتب الحديث خاصة على عهد المنصور الموحدي، ومحمد بن حماد العجلاني المتوفى عام 609هـ ، الذي عرف بتدريسه للموطأ ودواوين السنة واختير لإقرائها بين يدي الأمراء والسلاطين. . ( والذي نريد أن نسجله هنا هو أن المذهب المالكي لم ينهزم مطلقا أمام أمام الدعوة إلى الاجتهاد التي كان الموحدون يتزعمونها، ولا أمام المذهب الظاهري الذي نشط نشاطا كبيرا في هذا العصر، وذلك برغم الحملة المنظمة من رجال الدولة للقضاء عليه، فها أنت ترى كتبه الأمهات يعاد كتبها بفور إحراقها، وسترى في تسمية تآليف فقهاء العصر ما وضع حول هذه الكتب من دراسات وما عمل لها من شروح، وإنا لنعد من فقهاء المذهب المالكي الذين نبغوا في هذا العصر العشرات قبل أن نعد ظاهريا واحدا أو فقيها متحررا ممن يميل إلى الاجتهاد)
وبالإضافة إلى ما استقر من يقين بالضرورة الشرعية لإمارة المومنين، فقد استقر المغرب في هذا العهد على العقيدة الأشعرية التي هي وسط بين التأويل والتشبيه، حيث ستعرف الأشعرية بالمغرب مرحلة مد عام وانتشار كبير لتكامل الأدوار ما بين سلطة العلماء والسلطة السياسية. ولما لقيته “مرشدة” ابن تومرت وكتاباته في الاعتقاد من احتفاء اتجه العلماء إلى دراسة وتدريس المصادر الحقيقية للمذهب الأشعري ككتاب “الإرشاد” لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني.
ومن أبرز علماء هذه الفترة أبو عمرو عثمان بن عبد الله السلالجي (ت 574هـ) الذي نبغ في علم العقيدة وكثر تلامذته الذين أخذوا عنه العقيدة الأشعرية حتى لقب بـــ”منقذ أهل فاس من التجسيم”، وقد عرفت رسالته المختصرة “العقيدة البرهانية” انتشارا واسعا في المغرب، وأقبل عليها العلماء يشرحونها ويدرّسونها، كما ظهر علماء كبار اشتهروا باطلاعهم الواسع ومناقشتهم المفصلة لأمور العقيدة الأشعرية نذكر منهم :
- أبو الحسن علي بن أحمد الأموي السبتي الشهير بابن خمير المتوفى سنة: 614 هـ ، صاحب كتاب : ( مقدمات المراشد لقواعد العقائد ).
- ابن المناصف أبو عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي الأندلسي دفين مراكش عام 620 هـ ، صاحب المنظومة الشهيرة ( الدرة السنية في المعالم السنية )، المشتملة على أبواب في العقائد والفقه والسيرة النبوية.
- محمد بن علي بن الكتاني الفاسي المتوفى عام 599 هـ إمام وقته في المذهب الأشعري.
وبالجملة فإن المشيخة العلمية بالغرب في هذا العصر اجتهد رجالها في نشر العقيدة الأشعرية وعرض أفكارها وتحليلها، ( ومناقشة الجزئيات، والوقوف عند النكت ودقائق الأمور، مما فتح الباب أما ظهور مؤلفات عقدية غزيرة المادة والمحتويات وكبيرة الحجم، وظهر تفنن منهجي، وطرق جديدة مبتدعة في عرض الأفكار وتوصيلها تختلف عما اعتاده الأشاعرة السابقون في المشرق وحتى المغرب، أضف إلى ذلك ظهور اهتمام كبير بكتاب “الإرشاد للجويني”…. بالإضافة إلى ظهور تراكم لشروح عقائد مفكري الغرب الإسلامي لمرحلة الترسيم، مثل “عقيدة التنبيه والإرشاد”، للضرير، و”مرشدة” محمد بن تومرت، و”برهانية” السلالجي، )، هكذا تم ترسيم العقيدة الأشعرية في المغرب وتسارعت وتيرة التأليف والتدريس فيها اعتمادا على أصول مشرقية مثل كتاب “الإرشاد” لإمام الحرمين، وبمساهمة ثلة من العلماء والفقهاء بالتدريس والتعليم والشرح والتوضيح، فلم ينتهي هذا العصر حتى كانت العقيدة الأشعرية ( قد ترسخت في المجتمع المغربي، وأصبحت علاقة كل من الفقهاء والمتصوفة بها مكينة، فتحقق حولها الإجماع)
كما قاموا بترسيخ الركن الرابع من ثوابت الأمة، وهو التصوُف الذي أقام صرحه فقهاء وصلحاء من أمثال: علي بن حرزهم وأبي مدين شعيب الأنصاري، فقد ظهرت “جماعة من الصوفية الكبار أصحاب النزعات الفلسفية، وانبثت مذاهبهم المختلفة في الناس.. كأبي الحسن المسفر وأبي العباس السبتي، وأبي محمد صالح الآسفي”، وعبد السلام بن مشيش وأبو العباس الشريشي السلوي، وغيرهم .
وأثمر هؤلاء الأعلام مجموعة من المؤلفات في التربية والتزكية منها:
- منهاج العابدين لأبي الحسن بن المسفر، والإنابة إلى طريق أهل الاستجابة، والإيضاح في طريق أهل الصلاح، وكشف أحوال المفتون عن الدنيا والدين، وبستان العابدين، وأدب المريد، وكلها لمحمد بن قاسم التميمي
- أنوار السرائر ( الرائية المشهورة في التصوف) لأبي العباس الشريشي السلوي
- الحزب الكبير وحزب البحر لأبي الحسن الشادلي.
فخلال هذا العصر أصبح للتصرف في المغرب حضور متميز، حيث (ظهرت الدفعة الأولى من أولياء المغرب الكبار مثل أبي الحسن بن حرزهم، وأبي شعيب السارية، وأبي مدين شعيب بن الحسين الأنصاري، وأبي يعزى يلنور، وأبي عبد الله أمغار، وأبي الحسن بن غالب، وأبي العباس السبتي، وأبي محمد عبد السلام بن مشيش، وغيرهم، واستطاعت حركة التصوف أن تغطي المجال المغربي برمته.
وبجانب الرجل المتصوف كان للمرأة حضور مهم في الحركة الصوفية سواء كمريدة أو ولية، وأهم وليات هذه الفترة: فاطمة الأندلسية دفينة قصر كتامة، وأم أيمن التي تنسب إليها رابطة بادس، وأم عصفور تعزات الهنتيفية، وأم محمد تين السلامة، وعزيزة السكسيوية وغيرهن).
وبالإضافة إلى حرص المشيخة العلمية على ترسيخ ثوابت الأمة وبناء مقومات الشخصية المغربية، اجتهدوا في تدريس العلوم الشرعية ونشرها والتأليف فيها، فنبغ في علم التفسير أبو الحسن علي بن أحمد التجيبي الحرالي المراكشي، وعبد الجليل بن موسى الأنصاري القصري المتوفى عام 608 هـ الذي ألف في تفسير القرآن، وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن عمران المزدغي المتوفى عام 655 هـ ، صاحب تفسير للقرآن انتهى فيه إلى سورة الفتح، وأبو عبد الله محمد بن علي بن العابد الأنصاري الفاسي المتوفى عام : 662 هـ صاحب مختصر كتاب الكشاف للزمخشري، وأبو عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن يوسف المغربي الفاسي المتوفى عام 656هـ الذي وضع شرحا للشاطبية في القراءات.
كما اهتموا بالحديث الشريف وعقدوا مجالس لتدريسه وألفوا في شروحه ومصطلحه مؤلفات نذكرمنها:
- شرح مقدمة صحيح مسلم وشرح الموطأ لابن المواق المتوفى عام: 664هـ
- اختصار مسلم واختصار الموطأ للمهدي بن تومرت.
- كتاب أحكام الطهارة، وكتاب تحريم الخمر من الحديث، للمهدي بن تومرت
- أنوار المشرقين في تنقيح الصحيحين المشرقين لأبي الخطاب بن دحية.
- شرح أحاديث الشهاب للقضاعي، ومصنف في رجال الحديث لابن دحية وغيرها.
وكان لهم أيضا بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم اهتمام كبير، ففي هذا العهد ابتكر التأليف في مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، فظهر كتاب ( الدر المنظم في مولد النبي المعظم ) لأبي العباس أحمد بن محمد العزفي اللخمي، الذي أتمه ولده أبو القاسم، كما ألف أبو الخطاب عمر بن حسن ابن دحية الكلبي كتاب ( التنوير في مولد السراج المنير).
وبصفة عامة فقد واصل علماء المغرب في هذا العهد بناء مقوماتهم الشخصية، وتاريخهم المجيد بالدفاع عن الدين والتفاني في حب الوطن، وبيان مقاصد الشريعة وشرح مضامينها، وتنزيل نصوصها على واقع الناس وقضاياهم، خاصة فيما يتعلق بالدفاع حتى الاستشهاد عن أطراف البلاد، والحرص على تحصين الأمة من الوقوع في المحظور، خصوصا ما يتعلق بتجنب الغصب واكتساب المال الحرام. ويُذكر في هذا الباب العالم الجليل أبو محمد يسكر الكورائي التادلي، والقاضي يوسف بن الحكم، والفقيه علي المغيلي، والفقيه الكاتب أبو عمران التميمي وغيرهم.
وكان الخلفاء الموحدون يعقدون مجالس علمية مع أشياخ العلماء وكبارهم للاستشارة وتبادل الرأي في القضايا الكبرى والأمور الجسيمة التي تعترض الدولة، وكانوا يفتتحون هذه المجالس بطرح مسألة علمية معينة من طرف الخليفة أو من ينوب عنه، ثم يشرع العلماء في مناقشة المسألة والجواب عنها متدرجين حسب مكانتهم ومراتبهم.
د. محمد كنون الحسني