بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة
ليوم: 02 ربيع الأول 1446ه، الموافق ل 06 شتنبر 2024
في موضوع: «أثر الإيمان في تحصين المسلم»
الحمد لله،
الحمد لله ربِّ العالمين، غافر الذَّنب وقابل التَّوب شديد العقاب ذي الطَّول، لا إله إلا هو إليه المصير، نحمده سبحانه وتعالى ونشكره، ونشهد أنَّه الله الواحد الأحد، الفرد الصَّمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، جعل الإيمان حصناً حصيناً من السُّقوط في الشَّهوات، والميل إلى اتِّباع الهوى والملذَّات. ونشهد أنَّ سيِّدنا محمداً عبد الله ورسوله، بلَّغ الرِّسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، ونحن على ذلك من الشاهدين، وبه مؤمنون ومصدِّقون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فاللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله الطَّيبين، وصحابته الغرِّ الميامين، والتَّابعين لهم ومن تبعهم بإحسان وإيمان إلى يوم الحشر والدِّين.
أمَّا بعد؛ فيا عباد الله، إنَّ مما تضافرت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النَّبوية، أنَّ الحسنات يُذهبن السَّيئات، وأنَّ المؤمن ما يزال بخير ما تمسَّك بإيمانه، وأقبل على عمله بجدٍّ وإتقان، غير أنَّ طبيعة الضّعف البشري التي تلازم الإنسان، ولا تكاد تنفك عنه إلا باعتصامه بالإيمان، وما يقتضيه من أعمال صالحة تُحصِّنه من الارتهان لشهوات النفس أو الخضوع لنزغ الشَّيطان.
وقد سبق الحديث في الخطبة الماضية، عن نوع من الضّعف في الإنسان من حيثُ كونُه هلوعاً، وجزوعاً، ومنوعاً، وجهولاً، وكفوراً، وظلوماً، وغيرَها من الصِّفات التي ذكرها ربُّنا العظيم، ونبيُّنا الكريم، مع بيان علاجها من القرآن والسنة، بالإيمان، وتحقق ثمراته الطيبة الحسان.
واليوم نخص الحديث عن نوع آخر من الضّعف الذي قد يطال الإنسان فينال منه، ألا وهو: الاستسلام للشهوة الحرام، واستحسان لذاتها، ذلك أن النفس جُبلت على اتباع الهوى، والميل إلى الملذات، والخضوع للشهوات، وهذا ما أعلمنا به ربنا، في سياق التنبيه والتحذير عند قوله تعالى:
اِ۪عْلَمُوٓاْ أَنَّمَا اَ۬لْحَيَوٰةُ اُ۬لدُّنْي۪ا لَعِبٞ وَلَهْوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٞ فِے اِ۬لَامْوَٰلِ وَالَاوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ اَعْجَبَ اَ۬لْكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَر۪يٰهُ مُصْفَرّاٗ ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماٗۖ [1].
والنَّاظر في آي الذِّكر الحكيم، وفي أحاديث سيِّد المرسلين، يلحَظ أنَّ رأس الشَّهوات، وسبب المعاصي والذُّنوب هو حبُّ الدُّنيا واتِّباع ملذَّاتها، والغفلة عن الآخرة، وما به تستقيم النَّفس وتصلح.
وهذا ما يؤكده قول رسول الله ﷺ، في حديث القصعة المشهور، في بيانه لسبب الضّعف الذي قد يلحق بالفرد كما الأمَّة:
«… وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت»» [2].
فاستيلاء حبِّ الدُّنيا على قلب العبد يُنسيه بالضَّرورة صلاح نفسه، وصلاح آخرته، ويورثه الغفلة التي هي أصل كلِّ داء، وسبب كلِّ عناء ومشقة.
وحتى لا تأسر الذُّنوب والمعاصي العبد، وتخضعه لسلطانها، فتح الله له باب التَّوبة التي تجُبُّ ما قبلها، يقول ربُّنا الكريم:
قُلْ يَٰعِبَادِيَ اَ۬لذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَيٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اِ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يَغْفِرُ اُ۬لذُّنُوبَ جَمِيعاًۖ اِنَّهُۥ هُوَ اَ۬لْغَفُورُ اُ۬لرَّحِيمُۖ [3]
وجعل له من حب الله ورسوله منجاة من الطرد من رحمة الله تعالى، روى البخاري في صحيحه، بسنده عن سيِّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنَّه أُتِي برجل يوماً ـ كان رسول الله ﷺ، جلده في شرب الخمرـ فأمر به فجُلِد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العَنْهُ، ما أكثر ما يُؤْتَى به؟ فقال النَّبي ﷺ:
«لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنَّه يحبُّ الله ورسوله») [4].
عباد الله: إنَّ هذا الحديث الشَّريف فضلا على بيانه لبعض أسرار محبَّة الله ورسوله، وأثرها على العبد، فإنَّه يدل أيضاً على أنَّ المعصية قد تُضعف الإيمان ولكنَّها لا تنفيه، كما عليه إجماع أهل السُّنة من عدم التَّكفير بالمعصية، وأوَّلُوا نفْيَ الإيمان في قول النَّبي ﷺ:
«لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السَّارق حين يسرق وهو مؤمن» [5]
بنفي كمال الإيمان الذي أضعفته المعصية.
وإذا كان العبد معرَّضاً لتغلُّب الشَّهوات عليه، فليتسلَّح بالإيمان القوي، المؤسَّس على اليقظة الإيمانية الدَّائمة والرَّقابة الإلهية، ومحاسبة النَّفس على أنفاسها، وملازمة الذِّكر في سائر الأوقات؛ إذ المعصية إنَّما تقع في ساعة الغفلة، لقول الله تعالى:
اِنَّ اَ۬لذِينَ اَ۪تَّقَوِاْ اِذَا مَسَّهُمْ طَٰٓئِفٞ مِّنَ اَ۬لشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَۖ [6].
وقد ساق لنا القرآن الكريم قصة أبينا آدم عليه السَّلام للموعظة والفهم، حيث خاطب الشيطانُ فيه شهوتَين عظيمتين، قال الحقُّ سبحانه، وهو يحكي لنا عن الإغواء الشَّيطاني لآدم عليه السَّلام:
هَلَ اَدُلُّكَ عَلَيٰ شَجَرَةِ اِ۬لْخُلْدِ وَمُلْكٖ لَّا يَبْل۪يٰۖ [7]،
فانتصر الضعف البشري بهذا الإغراء على أبينا آدم عليه السَّلام، بسبب الغفلة، كما بين ذلك الحقُّ سبحانه:
وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَيٰٓ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْماٗۖ [8]
فالغفلة إذاً هي أهم أسباب ضعف المؤمن، ولا سبيل لطردها إلا ذكر الله تعالى، وهو ما نفهمه عنه جل جلاله عندما ألهَم سيِّدنا آدم أن يقول:
رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَ۬لْخَٰسِرِينَۖ [9]
فليس لأحد أن يأمن على نفسه من مسِّ الشَّيطان، ولو كان تقياً، إلا أن يتحصن بالإيمان أولا، ويتسلَّح بسلاح المحافظة على الطَّهارة، وأداء الصَّلاة في وقتها، والتَّصدق على فقراء المسلمين، والإكثار من ذكر الله تعالى، ولذلك شرع النَّبي ﷺ، لكلِّ مكانٍ، وزمانٍ، وحالٍ ذكراً، فإن غفلت ـ أيها المؤمن ـ عن ذكر الله جعلت للشَّيطان سلطاناً على نفسك، ويسَّرت له السَّبيل إلى قلبك بالوسوسة والخذلان، ثم الاستسلام لشرِّ الشَّهوات والأهواء.
عصمني الله وإيَّاكم من الغفلة ووسوسة الشَّيطان، وألهمنا اليقظة والأُنس بذكر الرَّحمن، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله التَّائب على من تاب إليه، نحمدُه تعالى ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، والصَّلاة والسَّلام على داعينا إلى التَّوبة، سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اقتفى أثره إلى يوم الدِّين.
أما بعد؛ فيا عباد الله، إنَّ ما شَغل ويشغَلُ العلماء أكثر من أيِّ وقت مضى، هو: كيف السَّبيل إلى تحصيل الحياة الطِّيبة الموعودة في القرآن؟ ولماذا لم يعطِ الإيمان ولا العمل الصَّالح ثمارهما المرجوةَ في سُلوك النَّاس ومعاملاتهم وممارساتهم اليومية؟
وما أشرنا إليه من تغلُّب النَّفس، والهوى، والشَّيطان؛ إن هو إلا بعض الأمثلة التي أَلِفَ النَّاس ذكرها، وإلا، فأين أثر الإيمان في المعاملات؟، وأين هو في تقليل الكلف عن النَّاس، ورفع الحرج والعَنَتِ عنهم؟، وأين هو في المحافظة على المال العام بعدم الغُلول فيه؟ وأين أثر العمل الصَّالح في إتقان العمل وتجويده، والنُّصح في القيام بالواجب في جميع المستويات، ومختلف الأعمال، كتعليم أبناء المسلمين، ومعالجة المرضى، وعدم الغشِّ في التِّجارة، وعدم احترام القوانين الجاري بها العمل في تدبير الشَّأن العام، وعدم إضاعة الوقت في أوقات العمل؟ وقس على هذا كلِّه سائر المهن والأعمال، حيث ينبغي للمؤمن أن يجتهد في أدائها باعتبارها عبادات يكون له أجر الإخلاص والأمانة فيها، تماماً كما يكون عليه وزر الغشِّ والخيانة فيها.
فكلُّها واجبات يلزم القيام بها، وأمانات يجب أداء حقِّها، وفق مقتضيات الإيمان والعمل الصَّالح، حتى تجلب لصاحبها الأجر في الدُّنيا، فيهنأ عيشه فيها، ثم يسعد بالنَّعيم المقيم في الآخرة.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا، عباد الله، على الرَّحمة المهداة، والنِّعمة المسداة سيِّدنا ونبيِّنا محمد، فاللهم صلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد كلَّما ذكرك وذكره الذَّاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، وارض اللهم عن الخلفاء الرَّاشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن باقي الصَّحب أجمعين، خصوصاً الأنصار منهم والمهاجرين، وعن آل بيت نبيِّك الطَّيبين الطَّاهرين، وعشيرته الأقربين، اللهم انفعنا بمحبتهم، واحشرنا يا مولانا في زمرتهم، ولا تخالف بنا اللهم عن نهجهم وطريقهم يا أكرم مسؤول، ويا خير مأمول.
وانصر اللهم من قلدته في الأرض أمر عبادك، عبدك الخاضع لجلالك، المعزَّ لدينك وسلطانك، مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس؛ نصراً عزيزاً تعزُّ به الدِّين، وترفع به راية الإسلام والمسلمين، وأقر عين جلالته بولي عهده المحبوب صاحب السُّمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وشدَّ أزره بشقيقه السَّعيد مولاي رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشَّريفة، إنَّك سميع مجيب.
وارحم اللهم الملكين الجليلين مولانا محمداً الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيِّب ثراهما، وأكرم مثواهما، واجعلهما في مقعد صدق عندك يا ربَّ العالمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كلِّ خير، واجعل الموت راحة لنا من كلِّ شر.
اللهم اقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واستر عورتنا، وآمن روعتنا، واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وسائر موتانا وموتى المسلمين.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفُسوق والعصيان، واجعلنا من الرَّاشدين.
اللهم اجعلنا من المحبِّين لك ولرسُولك ولكتابك، ومن المتحابِّين فيك، وحبِّب إلينا كلَّ ما يقربنا إليك.
ربَّنا اغفر وارحم، وتجاوز عمَّا تعلم، فإنَّك تعلم ولا نعلم، وأنت علاَّم الغُيوب؛
ربَّنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين؛
ربنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النَّار.
سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفُون، وسلامٌ على المرسلين،
والحمد لله ربِّ العالمين.